آيات احتج بها الشيعة على الإمامة ( 1 ) آية ابتلاء إبراهيم u
وعلاقتها بـ ( الإمامة ) الدكتور طه حامد الدليمي
== الحمد لله رب العالمين ، اللهم صلِّ وسلِّم على الهادي الأمين ، نبينا محمد ، وعلى آله .. أصحابه وأتباعه أجمعين .
وبعد ..
÷ فقد احتج الشيعة لعقيدتهم في ( الإمامة ) بآيات من القرآن الكريم . تأتي آية ابتلاء نبينا إبراهيم عليه السلام في مقدمتها . رأيت من المفيد أن أفرد مناقشة دلالتها على ما ذهبوا إليه في رسالة مستقلة . ستجد أن أهم ما فيها هو المنهج الذي على أساسه بنيت النقاش ، ألا وهو منهج القرآن . والميزة التي ينفرد بها هذا المنهج الرباني ، أنه يحسم النقاش بجملة واحدة لا تحتاج بعدها إلى مزيد كلام ، وطول نقاش . لذلك سترى أنك ستكتفي بالصفحة الأولى من الرسالة . وما بعدها ليس أكثر من لطائف وفوائد ، قيدتها من باب زيادة الفائدة .
÷ أسأله تعالى أن يهدي بها قلوباً جعلته غايتها ، ويكشف الغشاوة عن عيون اشتاقت لرؤية نوره الهـادي إلـى سواء السبيل . آمين .
إن أصول الدين وأساسياته التي انبنى عليها لا يصح أن تكون في طبيعتها قابلة للخطأ والصواب ، وإلا فسد الدين واختل من الأساس لأن أصوله صارت ظنية مترددة بين أن تكون حقاً وأن تكون باطلاً . وما ذاك بدين ، فإن الدين مبناه على القطع واليقين .
÷ وإذن يجب أن يكون الدليل الأصولي مما لا يمكن أن يتطرق إليه الخطأ ، أو الاحتمال بأي حال من الأحوال . وليس من مصدر بهذا الشرط إلا القرآن الذي تعهد الله تعالى بحفظه بنفسه
منهج الراسخين ومنهج الزائغين
÷ لكن آيات القرآن تنقسم – كما قال I - إلى قسمين :
1 . قسم صريح لا يحتـمل إلا معنىً واحداً هو الآيات المحكمات .
2 . وقسم يحتمل وجهين مختلفين فصاعداً هو الآيات المتشابهات .
÷ فيجب أن يكون دليل الأصل من قسم الآيات الصريحة المحكمة ، ولا يصح أبداً أن يكون من قسم الآيات الظنية المتشابهة ، ولذلك ذم الله I اتباع المتشابه والاعتماد عليه فقال : ] ... فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ[ بعد أن قال : ]هُوَ الَّذِي أنـزَلَ عَلـَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ اُمُّ الْكِتَابِ وَاُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[ ( آل عمران / 7 ) .
÷ وهكذا صارت أصول الدين مصونة عن احتمال الخطأ لسببين : أولهما أن كل آية محفوظة من التحريف لفظاً ، فإذا كانت صريحة محكمة كانت محفوظة من التحريف معنى .
÷ هكذا ثبت أصل التوحيد و نبوة محمد r وغيرهما من أصـول الاعتقـاد ، كذلك الصلاة والصيام وبقية أركان الإسلام ، وكذلك الانتهاء عن أصول المحرمات كالقتل والزنا والكذب ... الخ دون لجوء إلى رأي راءٍ ، أو رواية راوٍ ، فلا تأصيل بمعزلٍ عن محكم التنزيل .
÷ وقبل أن نناقش الآية ودلالتها على ( الإمامة ) من عدمها ، يجب أن نعرف أن الخلاف في ( الإمامة ) خلاف في مسألة أصولية إذ يعتقد الإمامية أنها كالنبوة أصل من أصول الدين ، من جحده كفر ، وبما إن ( الإمامة ) جُعلت كذلك فيجب إذن أن تكون النصوص القرآنية المتثبتة لها محكمة أي صريحة قطعية في دلالتها ، وليست متشابهة أي ظنية محتملة ، وإلا بطل الاحتجاج بها .
÷ فهل هذه الآية الكريمة محكمة في دلالتها على ( الإمامة ) ، حتى يصح بها الاحتجاج ؟ أم هي ظنية متشابهة ، فيكون الاحتجاج بها لا مستند له إلا الجدل واللجاج ؟ هذا ما سنراه في الصفحات التالية . q الآية الكريمة
÷ يقول I : ]وَإِذْ ابْتَلَى إبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً قَـالَ وَمِـنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[ ( البقرة/124 ) .
q ملخص الاحتجاج بالآية
÷ يدعي الشيعة أن (الإمامة) هبة إلهية – كالنبوة - مقدرة (بجعل) من الرب لا بسعي من العبد . وعلى هذا فإن اختيار الإمام (أو الخليفة) ليس من حق الأمة . إنما هو من شأن الله وحده فهو الذي يعين الإمام ويسميه و( يجعله ) . هذا بالنسبة لمبدأ ( الإمامة ) عموماً .
÷ وأما الاستدلال بالآية على ( إمامة ) علي وبقية ( الأئمة ) فقائم على أن العهد الذي هو ( الإمامة ) ، لا ينال ولا يجعل للظالمين . والظالم كل من كان مشركاً . أو اقترف ذنباً برهة من حياته . وإن تاب وأصلح !
÷ أي أن غير ( المعصوم ) لا يكون ( إماماً ) . وبما أن علياً هو هذا المعصوم دون غيره من الصحابة . إذن هو ( الإمام ) . فبطلت ( إمامة ) غيره من الخلفاء الذين سبقوه أو لحقوه .
÷ ومما قالته الإمامية في الآية أن ( الإمامة ) أعظم من النبوة ! وهي آخر منزلة نالها إبراهيم u .
÷ يروي الكليني عن جعفر بن محمد أنه قال : إن الله U اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً ، وأن الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً ، وإن الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً ، وان الله اتخذه خيلاً قبل ان يتخذه إماماً ، فلما جمع له الأشياء قال : ] إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً[ قال (ع) : فمن عظمها في عين إبراهيم قال : ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالميـن قال : لا يكون السفيه إمام التقي([1]) .
÷ يقول ( آية الله العظمى ) كاظم الحائري : إن الذي يبدو من الروايات أن مقام الإمامة فوق المقامات الأخرى -ما عدا مقام الربوبية قطعاً- التي يمكن أن يصل إليها الإنسان ! وقال بعد كلام طويل : فمقام الإمامة فوق مقام النبوة( [2] ) .
÷ ويقول ( آية الله العظمى ) ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره (الأمثل) : يتبين من الآية أن منزلة الإمامة الممنوحة لإبراهيم بعد كل هذه الاختبارات تفوق منزلة النبوة والرسالة … فمنزلة الإمامة أسمى مما ذكر بل أسمى من النبوة والرسالة !
الآية متشابهة وليست محكمة
÷ وجوابنا على كل ما قيل – ويقال – كلمة أو جملة واحدة فقط هي :
إن الآية ليست نصاً فيما ذهبوا إليه وإنما غايتها أن تكون مشتبهة تحتمل هذا وتحتمل غيره . وما كان كذلك فليس بدليل معتبر في الأصول . التي شرطها أن يكون دليلها نصاً قرآنياً محكماً صريحاً .
÷ بل يمكن القول ببساطة : إن هذه الأقوال ما هي إلا أوهام وافتراضات وخواطر لولا الاضطرار الذي يفرضه العلم اليقيني بعدم وجود آية قرآنية صريحة لما لجأ إليها عاقل !
÷ والآية في أحسن أحوالها لا تدل على ما قيل إلا على سبيل الاحتمال البعيد أي الظن المرجوح جداً ! فلو كانت ( الإمامة ) فرعاً من الفروع الفقهية لما صح الاستدلال بمثل هذه الآية عليها ، فكيف وقد جعلت أصلاً من الأصول الاعتقادية لا يضاهيه إلا مقام الربوبية !!
ومجمل القول أن الآية الكريمة ليست نصاً صريحاً في ( إمامة ) علي . ولا أحد غيره . إنما هي حديث عن إمامة إبراهيم u . وموضوعنا هنا ( إمامة ) علي لا إمامة إبراهيم . وهو لا ذكر له ، ولا أثر في الآية !
وبما أن الآية ليست نصاً صريحاً في ( إمامة ) علي . فهي ليست دليلاً أو نصاً في ( إمامته ) .
÷ إن ما قالوه ضرب من الاستنباط البعيد . المبني على سلسلة من الافتراضات والمقدمات ، كل واحدة منها بحاجـة إلـى برهان قطعي . وهو مفقود .
÷ وبما أن أصول الدين مبناها على النص القرآني الصريح وليس الاستنباط ، وبما أن الآية ليست نصاً صريحاً في ذلك فهي ليست دليلاً صالحاً للاحتجاج على المطلوب . وهو المطلوب .
r
÷ أما إذا أردنا الاستطراد من أجل أن لا نحرم القارئ من فوائد وأسرار وحكم والتفاتات قيمة من باب : ] ولكن ليطمئن قلبي [ . فنقول :
÷ إن الاحتجاج بالآية على ( الإمامة ) عموماً . و( إمامة ) علي خصوصاً مبني على ثلاث مقدمات تحتاج إلى إثبات :
الأولى : أن الإمامة المذكورة جاءت بالمعنى الاصطلاحي عند الإمامية وليس اللغوي . أي أنها منصب آخر غير منصب النبوة . وليست وصفاً لازماً لها .
والثانية : أن ( الجعل ) في قوله تعالى : ] إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً[ قدري تكويني ، لا شرعي سببي ؛ حتى تكون ( الإمامة ) – كالنبوة - هبة من الله لا سعياً من العبد .
والثالثة : أن الآية تتحدث عن شرط ( العصمة ) بالنسبة لـ(الإمام) . وهذا مبني على تفسير الظالم بأنه مطلق من ارتكب ذنباً . وإن تاب منه وأصلح .
÷ وهذا كله لا ينفع . إلا بعد إثبات أن علياً معصوم مع أحد عشر آخرين . إن هذه المقدمات ما هي إلا قضايا ظنية وشبهات افتراضية . فهي لا تصلح دليلاً على أي مسألة اعتقادية . وإليك الدليل على ظنيتها وبعدها الشاسع عن اليقين :
المقدمة الأولى :
إمامة إبراهيم u هل هي اصطلاحية أم لغوية
أي هل هي منصب آخر غير النبوة ؟ أم هي وصف لازم لها ؟ على شرط أن تثبت كمنصب بالدليل القطعي . الذي لا يتطرق إليه الاحتمال . وإلا بطل الاستدلال . وهذا ينتقض بأمور كثيرة منها :
لفظ ( الإمام ) مشترك
÷ إن لفظ ( الإمام ) في الآية لا يمكن العدول به عن معناه اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي إلا على سبيل الاحتمال . فاللفظ في أحسن أحواله مشترك بين المعنيين : اللغوي . الذي هو القدوة الذي يؤتم به ويتبع . وبين الاصطلاحي الذي هو منصب آخر غير النبوة . واللفظ المشترك ليس نصاً صريحاً محكماً إنما هو مشتبه محتمل لا يصح الاحتجاج به في الأصول .
فالقول بـ( الإمامة ) بدلالة الآية قول مبني على الظن . والظن لا يقبل في الأصول التي مبناها على اليقين . فالاستدلال بالآية على هذا الأساس باطل . لأنه لا أساس له .
ترجيح كون الإمامة لغوية لا اصطلاحية
÷ وهذه جملة أمور ترجح كون الإمامة في الآية لغوية وليست اصطلاحية . مع الانتباه إلى أن الترجيح لا يعمل كحجة إثبات إلا في المسائل الفرعية . لصحة ابتنائها على الظن الراجح . أما الأصول فالترجيح لا يصلح حجة إثبات معتمدة فيها . دون القطع الخالي تماماً من الاحتمال . وهذا يعني أنه حتى لو كانت الأدلة أو القرائن ترجح كون الإمامة هنا اصطلاحية ، فلا يرقى ذلك لأن يكون حجة في موضوعنا . لأنه أصولي وليس فروعياً . فكيف والأدلة المرجحة في جانب المعنى اللغوي ! فتكون ( الإمامة ) مبنية على ظن مرجوح . وهو غير مقبول في الفروع . فيرفض قطعاً في الأصول .
÷ من هذه الأمور : إن قوله تعالى : ] إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً[ يمكن حملـه على أنـه جملة مفسرة للجملة السابقة . وهي قوله تعالى : ] وَإِذْ ابْتَلَى إبراهيم رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ...[ فتكون وما بعدها تفسيراً للكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم u . وتكون الإمامة أول الابتلاءات أو الكلمات التي ابتلي بها . ثم تتابعت بقية الابتلاءات والأوامر . كبناء البيت وإعداده ثم الأمر بذبح ولده… الخ .
÷ فأول ما ابتلي به إبراهيم أن أخبره الله تعالى بأنه جاعله للناس إماماً . أي نبياً ورسولاً يقتدي به الناس ، لأن كل رسول قدوة يؤتم به ، ومن هنا يكون الابتلاء ، لأن كل من تصدى للناس يدعوهم ويأمرهم وينهاهم يبتلى ويؤذى . والنبي أول ما يوحى إليه بالنبوة ، ثم يؤمر بدعوة الناس ، وهي الرسالة ، فيكون رسولاً ، فقوله : ] إني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً [ أي رسولاً يقتدى به ، فعليك أن تبلغ وتدعو وتأمر وتنهى وتصبر على البلاء . فتكون الرسالة أول الابتلاء .
÷ وكل رسول إمام ولا بد . وإلا كيف كان رسولاً ؟ وليس كل إمام رسولاً . فالإمامة وصف لازم للرسالة . وليست شيئاً خارجاً عنها حتى يصح القول بأن الرسول يمكن أن يكون إماماً أو لا يكون . إذ بمجرد أن يكون الرجل رسولاً يكون إماماً . لأن الإمامة من الأوصاف اللازمة للرسالة .
÷ وذلك كقوله تعالى : ] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [ ( الأحزاب /46 ،45 ) . فإن الشاهد والمبشر والنذير والداعي والسراج المنير ليست مناصب مستقلة عن النبوة ، وإنما هي أوصاف لازمة لكل رسول ، فإذا كان النبي كذلك كان رسولاً ولا بد . فكذلك قوله تعالى : ]إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً[ . فيكون الرسول إماماً وشاهداً ومبشراً ونذيراً … الخ . وكلها أوصاف وليست مصطلحات خاصة لمناصب مستقلة عن النبوة .
÷ ومنها أن الله تعالى لم يجعل إبراهيم u خليفة أو حاكماً متصرفاً في أمور الناس ، وإنما جعله قدوة ونموذجاً للتأسي والاتباع . و( الإمام ) من معانيه في مصطلح الإمامية الخليفة أو الحاكم المتصرف في أمور الناس بتعيين من الله ، وليس القدوة المجرد عن ذلك ، فلو كان مقصود الله تعالى بالإمامة ذلك ، لما تخلف وعد الله لإبراهيم بها على هذا المعنى ، ولصار إبراهيم خليفة وحاكماً مطاعاً .
÷ والحاصل : أن الإمامة والخلافة شيئان مختلفان . ولذلك فرق الله تعالى بين داود وإبراهيم في اللفظ . فقال لداود u : ] يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ ( ص/26 ) . بينما قال لإبراهيم : ] إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً [ لأن داود كان خليفة وحاكماً متصرفاً . وإبراهيم لم يكن كذلك . وعلي لم يأت نص قرآني في خلافته كداود . ولا ( إمامته ) كإبراهيم !
÷ ومنها أن الذرية الذين طلب إبراهيم لهم الإمامة بقوله : ( ومن ذريتي ) صرح بمقصوده منهم بقوله : ( من آمن منهم بالله واليوم الآخر ) فهم مطلق المؤمنين ، والإيمان وصف عام ليس خاصاً بـ( المعصومين ) .
÷ وقد كرر إبراهيم اللفظ الدال على التبعيض - وهو الحرف (من) - في الموضعين ، لأنه يعلم أن ذريته لا بد أن يكون بعضها -وليس جميعها- فاسقاً ، فإنه حين طلب الإمامة لبعض ذريته طلب الرزق معها لهذا البعض ، فقال : ] وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [ ( البقرة/126 ) ، فبين الله له أن الرزق ليس خاصاً بالمؤمنين – كالإمامة - بل يعم المؤمن والكافر والظالم أو الفاسق ، فقال : ] وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً [ .
÷ ومنها أن العـهد المذكور في قوله تعالى : ] لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [ مبهم ، فتفسيره بخصوص ( الإمامة ) المصطلح عليها يحتاج إلى دليل . فقد يكون هو مطلق ما يصح أن يكون به المؤمن إماماً وقدوة ، كالقيام على شؤون بيت الله ، وما شابه من الأمور الدينية .
÷ وهذا هو الذي تكرر مجيئه في القرآن ، كقوله تعالى : ] أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ~ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [ ( يس /61 ،60 ) . فعهد الله هنا - وهو أعظم عهد - الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك .
÷ وقوله : ] وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ [ ( التوبة/75 ) . وهو الزكاة والصدقة . وقوله: ] مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [ ( الأحزاب/23 ) . وهو عهد الجهاد . كما في قوله : ] الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [ ( الفتح/10 ) .
÷ وهذا أقرب إلى معنى اللفظ ، بقرينة أن الله تعالى قال بعده مباشرة : ] وَعَهِدْنَا إِلَى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [ ( البقرة/125 ) . فتطهير البيت والقيام على شؤونه إذن من العهد الذي لا ينال الظالمين حقاً في شرع الله .
÷ ولهذا يتسابق الملوك على التشرف بخدمة بيت الله تعالى من أجل إضفاء الشرعية على ملكهم وإمامتهم . لكن هذه الإمامة غير معتبرة شرعاً . ما لم تكن بحق . ومن هذا الباب سمي إمام المسجد إماماً . وكل من صلى بالناس فهو إمام لهم في تلك الصلاة .
الإمامة تتجزأ
÷ وهذا يعني أن الإمامة تتجزأ . فتتسع وتضيق . فقد يكون الإنسان إماماً في مسجد . أو إماماً لمصر من الأمصار . أو يكون إماماً للأمة . أو إماماً للناس كإبراهيم u . وهذا هو الذي حصل له . فإن أتباع الديانات السماوية الثلاث يتشرفون بالانتساب إليه ، والاقتداء به . وهو أبو الأنبياء . حتى إن رسول الله r أوحى الله إليه: ] أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا [ ( النحل/123 ) . وهذه الإمامة لم تتهيأ لأحد من الأنبياء سواه .
÷ إن بعض الأنبياء قد لا يكون إماماً لغير أهله أو قومه . وبعضهم إمامته ليست كاملة من جميع الوجوه المطلوبة للنبي . كيونس u الذي قصر في الصبر المطلوب من أمثاله . فنهى الله نبيه محمداً r أن يتخذه قدوة فيه . كما جاء في قوله : ] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [ ( القلم/48 ) . أما إبراهيم u فهو من أولي العزم الذين أمر الله نبيه محمداً r بالاقتداء بهم . فقال : ] فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [ ( الأحقاف/35 ) .
÷ فالإمامة التي سألها إبراهيم لبعض ذريته من هذا الجنس . وهي قد تحصل لكل مؤمن . بدليل أن الله أرشد عباده جميعاً أن يسألوه إياها وذلك في قوله : ] وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إماماً [ ( الفرقان/74 ) .
÷ وعلاقة الإمامة هنا بالأزواج والذرية : هي أن من تصدى لإمامة الناس . إذا كان له زوجة سيئة ، وذرية عاقة مشاكسة ، انشغل بهم وبمشاكلهم عن مطالب الإمامة . فلم ينجح في أدائها . مما يدل على أن الإمامة ليست منحة قدرية كائنة لا محالة . دون سبب أو سعي من صاحبها .
÷ وقد جاء هذا الدعاء مبدوءاً بقوله تعالى : ] وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًـا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامـاً [ ( الفرقان/63 ) . و( عباد الرحمن ) لفظ عام يندرج تحته كل مؤمن . وليس خاصاً بـ ( المعصومين ) .
÷ واستمرت الآيات بذكر الأعمال الصالحة لنيل الإمامة . والأعمال التي تناقضها . حتى ختمت بهذا الدعاء . الذي ختم بطلب الإمامة . وهي تفسير وتفصيل لقوله تعالى : ] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتنَا يُوقِنُونَ [ ( السجدة/24 ) . أي لما صبروا على أداء تكاليف الإمامة من الإتيان بالأعمال الصالحة وترك الأعمال السيئة .
الإمامة قد تكون هي النبوة
÷ ومن القرائن التي تناقض الإمامة الاصطلاحية : أن الإمامة التي سألها إبراهيم ربه ، تحتمل أن تكون النبوة لا غيرها . من حيث أن النبي إمام . وكيف يكون نبياً وهو لا يصلح أن يكون قدوة وإماماً ؟! فسماه إماماً بالنظر إلى هذه الحيثية . لأن النبوة إنما تكون ابتلاءاً من جهة أنها معنى يسلتزم التقدم بالناس وقيادتهم في الخير ودعوتهم إليه. وهذا هو معنى الإمامة . فيكون الخطاب الإلهي بذلك في أول الوحي لإبراهيم بالنبوة . صحيح أنه لم يكن له آنذاك ذرية . لكن لا مانع من توقع وجودهم في المستقبل .
÷ ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى عن إبراهيم : ] وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [ ( العنكبوت/27 ) . ولم يقل : الإمامة . ولا مانع من أن نجعل ذلك تفسيراً لقول إبراهيم في الآية : ( ومن ذريتي ) . واستجابةً لدعائه . فالله حين أخبره أنه جاعله للناس إماماً ، طلب أن يجعل هذه الإمامة لذريته . والله قد استجاب دعاءه . وأخبرنا عن ذلك بقوله : ] وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ [ . أي شيء جعل في ذريته ؟ قال : ] النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [ . ولم يقل : ( الإمامة والكتاب ) . وهذه قرينة قوية تشهد لما نقول .
÷ ومما ينبغي أن يلاحظ أن لفظ ( الإمامة ) لم يرد في القرآن إنما ورد لفظ ( النبوة ) . ومما يشهد لها من القرائن أن النبوة بعد إبراهيم حصرت في ذريته . وهي لا تكون لمن أسرف في المعاصي ، فكان من الظالمين . بينما كانت لمن ظلم نفسه من ذريته لكنه تاب وأصلح . كموسى u . الذي قتل إنساناً لا يحل له قتله كم أخبر تعالى فقال : ] وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [ ( القصص /16 ، 15 ) .
الإمامة والابتلاء
÷ وأما القول بأن الابتلاء متقدم على ( الإمامة ) . على اعتبار أنها حصلت كجزاء على النجاح في الابتلاء . كما قال به الطوسي في ( التبيان ) . والطبرسي في ( مجمع البيان ). ومن المتأخرين ( آية الله العظمى ) جعفر سبحاني .( [3] ) فهو قول مرجوح من الناحية اللغوية ؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الأولى أن يقال : ( وَإِذْ ابْتَلَى إبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ فقَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماما ) . فيؤتى بـ( الفاء ) كرابطة ، ليكون مـا قبلها ( وهو الابتلاء ) سبباً لمـا بعدهـا ( وهو الإمامة ) . وبعدم وجود ( الفاء ) يترجح كون العبارة تفسيراً – وليس جزاءً - لما قبلها .
÷ ومما يؤيد ذلك أن الجملة إذا جاءت جزاءاً لجملة ، تقدمت عليها . ولم تتأخر عنها . أما إذا تأخرت ، فهي سبب أو تفسير لما قبلها. فالجملة المتأخرة التفسيرية كقوله تعالى : ] وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ~ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [ النازعات/30 ،31 .
÷ فجملة ( أخرج . . . ) تفسير لجملة ( دحاها ) . وأما السببية فكقوله تعالى : ] خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ~ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ~ ... إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ... [ ( الحاقة :30-34 ) . فجملة ]إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ... [ سبب لما قبلها من قوله : ]خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ...[ . فالجملة الجزائية تتقدم على الجملة السببية . فتأخير قوله : ] إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً [ مع انعدام حرف ( الفاء ) . يضعف كونها جزاءاً لما قبلها ، وأن ما قبلها سبب لها .
÷ صحيح أن الإمامة في الدين تنال بالصبر والابتلاء القائم على اليقين . ولكن هذه هي الإمامة اللغوية التي هي القدوة . أما الاصطلاحية فهي - على حد قول الإمامية – هبة كالنبوة لا داعي لأن يتقدمها الابتلاء . بل الابتلاء يحصل بعدها . فرسول الله r إنما ناله الأذى والابتلاء بعد النبوة لا قبلها . فالنبوة أول الابتلاءات .
÷ والخلاصة أن القول بأن ( الإمامة ) حصلت كجزاء على الابتلاء – ليسلم الادعاء بأنها منصب متأخر عن النبوة - ظن مرجوح لغة . وأصول العقيدة لا تبنى على الظن الراجح فكيف بالمرجوح !
نتائج بناء ( الإمامة ) على الابتلاء
÷ ولو سلمنا جدلاً بهذا القول . وهو أن ( الإمامة ) تحصل بالابتلاء . فإنه يوقع أصحابه في إحراجات وتناقضات تنسف (الإمامة) من الأساس ! منها :
÷ أن الإمامية يقولون بأن ( الإمامة ) كائنة مع ( الإمام ) منذ وجوده . بل ( الأئمة ) كانوا ( أئمة ) قبل خلق آدم u ! فالقول بحصولها بعد الابتلاء يتناقض مع أصـل قولهم بـ ( الإمامة ) .
وسبب وقوعهم في هذا التناقض . هو أن القول بأن ( الإمامة ) منصب غير منصب النبوة يحتاج – لإثباته بوضوح من خلال الآية - إلى القول بتأخره عن الابتلاء . ليحصل التمييز بين المنصبين . على اعتبار أن منصب النبوة حصل أولاً . ثم حصل منصب ( الإمامة ) آخراً . إذن هما منصبان متميزان .
÷ ولهذا - وحتى يتبين الأمر ويثبت أكثر - وضعوا له تلك الرواية التي تقول بأن الله اتخذ إبراهيم إماماً بعد أن اتخذه خليلاً ورسولاً … الخ.
وأغمضوا الطرف عن التناقض بين هذا ، وبين قولهم بأن (الإمامة) هبة كائنة مع ( الإمام ) منذ وجوده . وهذا يدل على أن قواعد الشيعة تصنع حسب الطلب . فإن احتاجوا لقاعدة وضعوها وإن تناقضت مع قاعدة أخرى وضعوها مسبقاً .
÷ وأيضا فإن ( الإمامة ) إذا كانت إنما حصلت بعد اجتياز الابتلاءات . والنجاح في الامتحانات فقد حصلت بأسباب وسعي من العبد . والإمامية يقولون بأن ( الإمامة ) -كالنبو ة- لا يدَ للعبد في تحصيلها . إنما هي هبة ممنوحة من الرب .
÷ ومن هذه التناقضات : أن بعض (الأئمة) لم يحصل لهم ابتلاء . وقد نالتهم ( الإمامة ) – حسب العقيدة الإمامية - بلا سابق امتحان مثل محمد الجواد ، وابنه علـي ، وكذلك ( المهدي ) . إذ حصلت لهم (الإمامة) منـذ الطفولة . كما اعترف بذلك جعفـر سبحاني بقوله : « قد بلغ بعض الأئمة المعصومين لدى الشيعة إلى القمة من الكمال والصلاح من دون أن يتعرضوا للابتلاء » ( [4] ) .
وقد حاول التملص من الإحراج الذي يسببه له هذا القول ، بأن الابتلاء ليس الطريق الوحيد للإمامة . ونحن نقول : فلم لا تكون (العصمة) ليست الطريق الوحيد (للإمامة) كذلك ؟! وهذا أولى بالقبول وأقرب للمعقول لأن القرآن يقرر أن الإمامة حصلت للبعض بالصبر واليقين . وذلك في قوله تعالى : ] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [ ( السجدة/24 ) . والصبر لا يكون إلا على الابتلاء . فالابتلاء مذكور ومنصوص عليه كشرط للإمامة . لكن (العصمة) غير مذكورة في الآية . ولا منصوص عليها في القرآن كله كشرط لها .
÷ فالتمسك بغير المذكور . والتفريط بالشرط المنصوص عليه قلب للأمور . لا تقبله إلا القلوب المنكوسة ، والعقول المعكوسة . والسبب الكامن وراء الوقوع في هذا التناقض . هو أنه لا بد من التملص من شرط الابتلاء بأي صورة . وإلا انتقضت ( الإمامة ) . لأن بعض (الأئمة) لم يبتلوا قبل ( الإمامة ) . ولا بد - من جهة أخرى - من التمسك ، وعدم التفريط بـ ( العصمة ) شرطاً لـ ( الإمامة ) . لأنه يفيدهم في إسقاط إمامة ( الصديق ) . وبقية الخلفاء على اعتبار حصول الاتفاق على عدم عصمتهم !
÷ وهذا يدل على عدم الجدية في الاعتقاد . وعدم خلوص النوايا وإلا لما كان الوقوع في مثل هذه الازدواجية . والانتقائية في تطبيق القواعد والشروط . بل اختراعها !
لا علاقة للعصمة من الظلم بـ ( الإمامة )
÷ إن ( العصمة ) - التي حصل التشدد في اشتراطها لـ( الإمامة). بحيث لو وقع ذنب من إنسان ولو لبرهة من حياته وإن تاب وأصلح كان مانعا من الإمامة – لا يوجد دليل معتبر عليها . بل الأدلة إلى غير جانبها . ويكفينا في هذا الموضع دليل واحد . هو أن آدم u وقع في الخطيئة ، وارتكب الظلم بنص القرآن كما قال تعالى : ] وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ [ ( البقرة/35 ) . فالأكل من الشجرة يجعل الآكل من الظالمين وقد أكل آدم منها ولذلك اعترف هو وحواء قائلين : ] رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [ ( الأعراف/23 ) .
÷ فكيف - طبقاً لقواعد الإمامية - يستقيم هذا مع إمامته . والنص على خلافته بقوله تعالى : ] إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً [ (البقرة/30) ؟ ! وكل خليفة منصوص عليه شرعاً هو إمام شرعي . ولا بد .
÷ إن هذا ينقض ( العصمة ) . ويجعل التائبين من الذنب - كآدم u - غير مشمولين بوصف الظلم المذكور في قوله سبحانه : ] لا ينال عهدي الظالمين [ أي أن العصمة - والتي من شروطها عدم حصول ذنب سابق - ليست مقصودة في الآية التي هي موضع الاحتجاج . وسيأتي - إن شاء الله - مزيد بيان عند الكلام على المقدمة الثالثة .
إمامة الأشرار
÷ ومما يبين بطلان منصب ( الإمامة ) بوضوح : أن الله تعالى تحدث لنا عن إمامة أخرى هي إمامة الأشرار ، وذكر أنها ( بجعل ) منه فاستعمل اللفظ نفسه في الإمامتين ، كما قال تعالى عن فرعون وملئه : ] وَجَعَلْنَاهُمْ أئمة يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ [ ( القصص/41 ) . فقد جعل الله تعالى للكفر والشر أئمة يقتدى بهم وسماهم ( أئمة ) : ] فقاتلوا أئمة الكفر [ ( التوبة/12 ) كما جعل للإيمان والخير أئمة يقتدى بهم .
÷ ولا شك أن إمامة الأشرار ليست منصباً يتم بالتعيين الإلهي مع كونها بـ ( جعل ) من الله ، فكذلك إمامة الأخيار لأن اللفظ المخبر عن الإمامتين واحد . فلو كان اللفظ ( جعلناهم أئمة ) يعني أن الإمامة منصب لكانت كذلك إمامة الأشرار . لأن اللفظ واحد في الإمامتين : فهنا قال : ] وَجَعَلْنَاهُمْ أئمة يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [ وهناك قـال : ] وَجَعلْنَـاهُمْ أئمـة يَهْـدُونَ بِأَمْـرِنَا [ ( الأنبياء /73 ) . وقال : ] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [( السجدة/24 ) .
÷ وهو كقوله تعالى عن بني إسرائيل : ] وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمة وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ ~ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [ ( القصص/6 ، 5 ) . وليست ( الوراثة ) منصباً . مع وقوع لفظ ( الجعل ) عليها . فكذلك ( الإمامة ) . و( الذين استضعفوا من بني إسرائيل ) وقعت منهم أعظم الذنوب . كالإشراك بالله بعبادة العجل وغيرها !
÷ ومن هنا صح أن يدعو كل مؤمن قائلاً : اجعلني للمتقين إماماً. كما يدعو ويقول : اجعلني فائزاً اجعلني خاشعاً .. وهكذا .
÷ وبالجملة فقد صار القول بأن الإمامة منصب غير النبوة غايته أن يكون مجرد ظن وشبهة . بينه وبين القطع واليقين مفاوز ومسافات تنقطع دونها الآمال . وأصول العقيدة مبناها على اليقين ، لا على الظن فبطل الاستدلال .
المقدمة الثانية :
هل ( الجعل ) في الآية قدري أم سببي؟
وهذا جنحوا إليه من أجل إبطال إمامة الصديق وصحة خلافته - بل الخلافة الإسلامية على مر التاريخ ! - على اعتبار أنها تمت باختيار من الناس . لا بنص و تعيين أو ( جعل ) من الله . فهو من جنس ( قواعد تحت الطلب ) .
÷ وأقل ما في هذا أنه ظن لا يقين فيه ، لأن اللفظ - من حيث الأصل اللغوي - محتمل لهذا وهذا دون إمكانية القطع بقدريته ، ونفي سببيته ، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال . وكفى الله المؤمنين القتال .
÷ أرجو من القارئ أن يحسب - قبل الاسترسال في القراءة - كم احتمالا تطرق إلى الاستدلال بهذه الآية على ( الإمامة ) ؟ ونحن لما نزل في أول الطريق !! وأن لا ينسى أننا لسنا بحاجة إلى كل هذا بعد أن أسقطنا الموضوع برمته بضربة واحدة !! ألا وهي عدم صراحة النص .
والآن لنا أن نسأل : ما الدليل القطعي على أن ( الجعل ) في الآية قدري تكوينـي . لا شرعي سببي . واللفظ - في أصله - يحتمل الأمرين ؟!
÷ إن كل حركة في الكون إنما هي بقدر من الرب . لكن بعضها قدري محض لا دخل للأسباب البشرية في حدوثها ، كلون البشرة وصورة الوجه ودوران الأرض وإشراقة الشمس . وبعضها يتوقف على هذه الأسباب .
÷ الذرية – مثلاً - تكون بقدر من الله ، لكن
لا بد من الزواج كسبب لولادتهم ووجودهم ، وكذلك الزرع والرزق والذهاب والمجيء ،
كلها بقدر و( جعل ) من الله ، لكنها - من الناحية الأخرى - لها أسباب تتوقف عليها
حتى الصلاة والصيام وبقية الأعمال فهي
- وإن كانت بسبب أو سعي من العبد لكنها - متوقفة على تقدير الرب ، والعكس صحيح . ومـن
هـذا قول نبـي الله إبراهيـم u : ] رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [ (إبراهيم/40) . فـ( الجعل ) هنا ليس
مستقلاً عن الأسباب . وهو كقوله أيضاً : ] رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْـنِ لَكَ
وَمِـنْ ذُرِّيَّتِنَـا أُمَّـةً مُسْلِمَـةً لَـكَ[
( البقرة/128
) .
÷ هذا هو الجعل الشرعي السببي . فحينما نقول : إن ( الجعل ) سببي لا نقصد استقلاله عن القدر ، وإنما نقصد اشتراكهما فيه معاً لإيجاد ما بني عليه . أما إذا قلنا : إن ( الجعل ) قدري فنقصد به استقلاله عن السبب البشري ، وهذا واقع لا محالة ، بخلاف ( الجعل ) السببي الذي قد يقع وقد لا يقع .
÷ والملاحظ أن إبراهيم u سأل عدة أشياء له ولذريته ، واللفظ واحد في جميع هذه الأسئلة وهي :
]قَالَ إِنِّي جَاعلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي[ ( البقرة/124 ) .
] رَبَّنَـا وَاجْعَلْنَـا مُسْلِمَيْـنِ لَـكَ وَمِـنْ ذُرِّيَّتِنَـا أُمَّـةً مُسْلِمَـةً لَكَ[ ( البقرة/128 ) .
] رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [ ( إبراهيم/40 ) .
÷ وقد اشتركت الأسئلة الثلاثة ( الإمامة والإسلام والصلاة ) بلفظ ( جعل ) . ولفظ ( ومن ذريتي ) مما يشير إلى أن ( الجعل ) فيها واحد ، وأن الإمامة هي من جنس بقية الأسئلة لا علاقة لها بعصمة أحد أو تعيينه من الله .
÷ والآن اقرأ هذه الآيات :
] وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً[ ( النحل/72 ) .
] وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنعَامِ بُيُوتًا[ ( النحل/80 ) .
فلولا سعي العبد في الزواج وبقية الأسباب لما جعل الله له بنين أو حفدة . وكذلك لولا عمل العبد من ذبح الأنعام وسلخ جلودها ودباغتها وخياطتها وتهيئتها لما جعل الله له من جلود الأنعام بيوتاً .
] وَجَعَلَ لَكمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُـمْ الْحَـرَّ وَسَرَابِيـلَ تَقِيكُـم بَأْسَكُـمْ[ ( النحل/81 ) . وهي الثياب التي ينسجها الإنسان . والدروع التي يصنعها .
]لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا[ ( الفتح/72 ) .
ولولا إعداد العدة وتجهيز الجيش لما حصل الفتح الذي ( جعله ) الله .
]فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [ (المائدة/13). فنقض الميثاق كان السبب في ( جعل ) قلوبهم قاسية .
] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا[ ( الكهف/32 ) . وكل ذلك بأسباب .
]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[ ( الطلاق/3 ، 2 ) . فالتقوى هي السبب في ( جعل ) المخرج من كل ضيق .
]وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ[ ( الشعراء/85 ) . والجنة لا تنال إلا بعمل العبد .
÷ فكل ( جعل ) هنا متوقف على سبب ، وكذلك ( الجعل ) في قوله تعالى : ]إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً[ والدليل كذلك قولهم : إنه حصل بعد الابتلاءات واجتياز الامتحانات . إذن هو متوقف على هذه الأسباب ، ولولاها لما حصل أثره وهو الإمامة .
فما علاقة ذلك بالتعيين الإلهي ؟!
÷ ومما يبطل الاحتجاج بالآية تماماً : أن ( الإمامة ) التي أثبتها الإمامية لـ( الأئمة ) قدرية كائنة مع الإمام منذ وجوده . وإمامة إبراهيم u - والقول لا زال للإمامية – حادثة بعد أن لم تكن . فهي ليست قدرية تكوينية . فإما أن تكون ( الإمامة ) حادثة كإمامة إبراهيم فهي ليست ( الإمامة ) التي أثبتوها لـ( الأئمة ) . وأما أن تكون غيرها فلا وجه للاحتجاج لها بإمامة إبراهيم .
÷ والنتيجة أن أعلى ما يطمع فيه المحتج بالآية ، أن اللفظ يحتمل الأمرين ، فعاد الأمر إلى الظن والاحتمال . فبطل الاستدلال .
المقدمة الثالثة :
هل في الآية ما يستلزم ( العصمة ) من الذنب؟
وهذا التقرير استنتاج وليس نصاً صريحاً ، والأصول مبناها على النصوص الصريحة وليس على الاستنتاج أو الاستنباط .
÷ إن هذا المعنى بعيد جداً عن النص ولا يخطر على البال مهما تفكر فيه القارئ إلا إذا كان في ذهنه من البداية ، وهو يلف ويدور يبحث لـه عما يؤيده من النصوص المشتبهة والمحتملة ولو بتكلف شديد . إن الأمر مبني على أن لفظ ( الظالمين ) يشمل كل من كان قد سبق منه ظلم - شركاً كان أم معصية - وإن تاب وأصلح .
÷ يقول محمد حسين الطباطبائي في تفسيره ( الميزان ) : إن المراد بالظالمين في قوله تعالى : ] ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين[ مطلق من صدر عنه ظلم ما من شرك أو معصية . وإن كان منه في برهة من عمره ثم تاب وصلح .أ .هـ .
÷ إن أول ما يبطل هذا القول أن تعرف أنه دعوى بلا دليل . فإن لفظ ( الظالمين ) جمع ( ظالم ) والظالم اسم للمتلبس بالظلم المقيم عليه أما من تاب وانخلع منه فلا يسمى ظالما وإلا لم يدخل أحد من التائبين الجنة لأنهم ( ظالمون ) ، والله تعالى يقول : ]ألا لعنة الله على الظالمين [ ( هود/18 ) وتوعدهم بالعذاب فقال : ]إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها [ ( الكهف/29 ) ومثله في القرآن كثير .
÷ فكيف يصح أن يقال : ( إن المراد بالظالمين في هذه الآية مطلق من صدر عنه ظلم ما من شرك أو معصية وإن كان منه في برهة من عمره ثم تاب وصلح ) ؟ ! إذن كل المسلمين في النار ! ولا شك أن قولاً هذه نتيجته هو من أفسد الأقوال وأبطلها . فبطل ما بني عليه من ( العصمة ) و( الإمامة ) عموماً ، و( عصمة ) و( إمامة ) أحد من الناس بعينه خصوصاً . كما أنه مخالف للشرع واللغة ، والعقل .
÷ إن التائب من الذنب - في شرعنا - كمن لا ذنب له ، والله تعالى يقول : ]إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيماً[ ( الفرقان/70 ) . فهل يصح أن يطلق على هؤلاء اسم ( الظالمين ) حتى يصح أن نسمي بذلك ( مطلق من صدر عنه ظلم ما من شرك أو معصية وان كان منه في برهة من عمره ثم تاب وصلح ) ؟!
÷ إنه ليس أكثر من محاولة يائسة لإخراج أبي بكر الصديق وغيره من الخلفاء من شرف الإمامة واستحقاق الخلافة بدعوى أنه كان مشركاً فهو من ( الظالمين ) وإن تاب ، ( لأن المراد بالظالمين في الآية مطلق من صدر عنه ظلم ما …الخ ) . إن ( الظالم ) اسم مشترك بين المشرك أو الكافر الخارج عن الملة ، وبين الفاسق أو العاصي المسرف على نفسه من أهل الملة ما دام مقيماً على فسقه وعصيانه . وهو اسم يشمل من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وغلبت سيئاته على حسناته وهؤلاء لا يكونون أئمـة يقتدى بهم مـا داموا مقيمين على ما هم عليه .
÷ وذلك كقوله تعالى : ] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ[ : وهو الذي اجترح من السيئات وترك من الواجبات ما صار به مقصراً عن درجة النجاح . ]ومنهـم مقتصد [ : وهو من ترك ما استطاع من السيئات ، وعمل بما استطاع من الواجبات . ] وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [ ( فاطر/32 ) وهو الذي عمل على قدر استطاعته ، فأتى بالواجبات والمستحبات وترك المحرمات والشبهات والمكروهات .
÷ فالإمامة مقصورة على الصنفين الأخيرين دون الصنف الأول ومثله قوله تعالى وهو يذكر إبراهيم : ]وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ ( الصافات/113 ) . هذا هو مقصود آية إبراهيم . فما علاقة ( العصمة ) بها؟ إن الله تعالى لم يقل : ( لا ينال عهدي من ظلم ) حتى يمكن أن يحمل – ولو بتكلف - على من ظلم ولو مرة واحدة . على اعتبار أن الفعل الماضي يفيد الحدوث مرة واحدة . بينما الفعل المضارع يفيد تكرار الحدوث .
÷ إنما قال : ] لا ينال عهدي الظالمين[ والاسم في اللغة يفيد الثبوت والدوام فلا يشمل إلا من ثبت وداوم على ظلمه دون من تاب وأصلح . فأبو بكر وعمر وعثمان حينما تولوا أمر الأمة لم يتولوه وهم ظالمون ، وإنما تولوه وهم مؤمنون صالحون ، سماهم الله تعالى بالسابقين الأولين والصادقين والمفلحين والفائزين…الخ .
الخطيئة السابقة لا تناقض الإمامة
÷ ويؤيد ذلك أن آدم u نصص الله على ( جعله ) خليفة بقوله تعالى : ]إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً[ ( البقرة/30 ) وهو يشمل آدم قطعاً ، فآدم أول خليفة وأول إمام ، وقد أسجد الله تعالى له ملائكته ، فالملائكة - فما دون - تبع لآدم . وهذه الإمامة هي السبب في حسد إبليس وعداوته له ، كما حسد الفرس العرب على إمامتهم ورئاستهم التي ابتدأت بالصديق .
÷ وقد اصطفاه الله تعالى فقال : ]إن اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبراهيم وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ[ ( آل عمران/33 ) . والاصطفاء مما يحتج بها الإمامية على ( الإمامة ) ومع هذا صرح الله تعالى بذكر ظلمه ومعصيته ، وأنه كان وزوجه من ( الظالمين ) في عدة مواضع من القرآن ، منها ما جاء في سياق ذكر خلافته ، وهو قوله تعالى : ]وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ[ ( البقرة/35 ) .
÷ وقد أكلا من الشجرة فكانا من الظالمين واعترفا صراحة بتحقق وصف الظلم فيهما ، وذلك في قوله تعالى عنهما : ]قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ[ (الأعراف/23) وقال أيضاً : ]وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [ ( طه/121 ) . وقال : ]وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما[ ( طه/115 ) .
÷ وفيه ذكر العهد ، فالعهد نال آدم رغم ظلمه السابق لأنه تاب واستغفر وأناب كما قال سبحانه : ] فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[ ( البقرة/37 ) . فهو ليس من ( الظالمين ) الذين لا ينالهم عهد الله .
÷ وكذلك داود u الذي صرح الله تعالى بـ ( جعله ) خليفة في قوله : ] يَا دَاُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق [ ( ص/26 ) . ولقد جاء هذا القول مباشرة بعد ذكر ارتكاب داود u للخطيئة المذكورة في سورة ( ص ) . والتي تبتدئ بقصة الخصمين اللذين تسورا عليه المحراب ، وتنتهي بقوله تعالى : ] وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ ( ص/24-25 ) .
÷ وكذلك سليمان u ، وقد قال الله عنه : ] وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي[ ( ص/34-35 ) .
÷ وقبلها ذكر قصة انشغاله بالخيل حتى فاتته صلاة العصر . وجاء ذلك مصرحاً في رواية لابن بابويه القمي عن جعفر الصادق أنه قال : (إن سليمان بن داود u عرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل فاشتغل بالنظر إليها حتى توارت الشمس بالحجاب فقال للملائكة ردوا الشمس علي حتى اصلي صلاتي في وقتها )( [5] ) مما يدل على أن التوبة بعد الخطيئة لا تحرم العبد من الفضل .
÷ بل ترتفع به فيكون أقرب إلى الرب الذي ]يحب التوابين ويحب المتطهرين [ . ولولا الذنب لما حصلت التوبة والتطهر . الذي به ينال العبد حب الرب . ( ومن المعلوم أنه قد يكون التائب من الظلم أفضل ممن لم يقع منه . ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره واهتدى بعد ضلاله وتاب بعد ذنوبه ، فهو مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام . فمن المعلوم أن السابقين أفضل من أولادهم ، وهل يشبِّه أبناء المهاجرين والأنصار بآبائهم عاقل؟ )( [6] ) وهذا كله يتناقض مع تفسير علماء الإمامية للفظ ( الظالمين ) الذي بنوا عليه القول باشتراط العصمة من الآية .
مخالفة ( العصمة ) لظاهر القرآن
÷ ثم إن عصمة الأنبياء المطلقة من الأخطاء والذنوب مخالفة لظاهر القرآن ، ولا يمكن القول بها إلا على سبيل الظن بعد التكلف الشديد والتعسف الواضح في تأويل النصوص القرآنية لإخضاعها وجعلها ذيلاً تابعاً للآراء محكوماً بها لا حاكما عليها .
÷ إنها قضية قالوها أولاً بعقولهم دون سند من صريح القرآن ، ثم بحثوا لها فيه عما عساه يؤيدها ، فجعلوا القرآن - كمتأخري خلفاء بني العباس - ليس له من الحكم والخلافة إلا الاسم والتاج والتواقيع التي تخرج باسمه ، أما الحكم الحقيقي فهـو للوزير والسلطان الأعجمي ، فالخليفة تابع في صورة متبوع ، وأما القرار فيتخذ من دونه ، وهو لا أمر له ولا نهي سوى أنه -آخر الأمر- يضع عليه التوقيع ليخدعوا بتوقيعه الجمهور .
÷ والشيء نفسه فعلوه مع القرآن ، عقائدهم وقراراتهم تتخذ من دونه وليس للقرآن أمر ولا نهي سوى أنهم يضعون لها -في آخر المراحل- توقيعاً باسمه ورسمه ليخدعوا بتوقيعه الجمهور . فالقرآن تابع في سورة متبوع ، والله تعالى يقول : ] اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ[ ( الأعراف/3 ) .
÷ اقرأ قوله تعالى عن موسى u حين قتل نفساً لا يحل قتلهـا : ] قَالَ هَذَا مِـنْ عَمَـلِ الشَّيْطَـانِ إِنَّـهُ عَدُوٌّ مُضِـلٌّ مُبِيـنٌ قَـالَ رَبِّ إِنِّـي ظَلَمْـتُ نَفْسِـي فَاغْفِـرْ لِي فَغَفَـرَ لَـهُ إِنَّـهُ هُـوَ الْغَفُـورُ الرَّحِيـمُ[ ( القصص/15-16 ) . والآيات تصرح بارتكاب موسىu لظلم قتل النفس وتوبته منه فكيف اختاره الله رسولاً إماما ؟! وهل هناك أعظم ذنبا بعد الشرك من القتل ؟!
فأين : العصمة المطلقة ؟ وأين : من ارتكب ظلما في برهة من عمره فهو من ( الظالمين ) وإن تاب وصلح ؟! فموسى إذن لا ينبغي أن يناله عهد الله لأنه من ( الظالمين ) !
÷ والقرآن فيه الكثير من الآيات التي تذكر للأنبياء أحوالا وأخطاء عاتبهم الله أو عاقبهم عليها ليس أقلها ذنب ذي النون u الذي عاقبه الله عليه ] فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ[ ( الصافات/142 ) . أي مرتكب ما يلام عليه . وقد صرح الله بأنه صار بذلك من الظالمين فقال : ] وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [ ( الأنبياء /87 ) . لكنه لما تاب رفعه وجعله إماماً لمائة ألف أو يزيدون . وبهذا يتبين بوضوح تام بطلان قولهم بأن الظالم من صدر عنه مطلق الذنب برهة من عمره وإن تاب وصلح .
÷ بل إن كبار علماء ومفسري الإمامية أجازوا صدور الكفر والشرك من الأنبياء أول حياتهم ، معتمدين على ظاهر معنى بعض الآيات . من ذلك قوله تعالى : ]وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ ~ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِين ~ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ~ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ[ ( الأنعام/75-78 ) .
÷ ذكر الطوسي في تفسيره ( التبيان ) أربعة أوجه لمعنى الآية : ملخص الوجه الأول والثاني بالنص : « إن هذا القول كان من إبراهيم في زمن مهلة النظر … فلما أكمل الله عقله وخطر بباله ما يوجب عليه النظر وحركته الدواعي على الفكر والتأمل له قال ما حكاه الله لأن إبراهيم u لم يخلق عارفاً بالله وإنما اكتسب المعرفة لما أكمل الله عقله » أو « إن ما حكى الله عن إبراهيم في هذه الآية كان قبل بلوغ وكمال عقله ولزوم التكليف له غير أنه لمقاربته كمال العقل خطرت له الخواطر وحركته الشبهات والدواعي على الفكر فيما يشاهده من هذه الحوادث » .
÷ وملخص الوجه الثالث والرابع بالنص : « إنما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه » أو « على وجه المحاجة لقومه بالنظر » . ولم يرجح واحداً من هذه الوجوه . بل أبقى الأمر معلقاً محتملاً .
وممن يرى أن إبراهيم u إنما قال ذلك تفكراً وبحثاً في سبيل الوصول إلى الإله الحق الشريف المرتضى الذي يقول : « إن إبراهيم (ع) لم يخلَق عارفـاً بالله تعالى ، وإنما اكتسب المعرفة لما أكمل الله تعالى عقله » ( [7] ) . وكذلك الطبرسي في تفسيره ( مجمع البيان ) . كما جاء في المصدر السبق المنوه عنه في الحاشية .
÷ وأما الفيض الكاشاني فيحتمل الاتجاهين معاً : اتجاه النظر والاستدلال . واتجاه المناظرة والمحاججة مع قومه( [8] ) .
ويصرح مكارم الشيرازي صاحب تفسير ( الأمثل ) : أن كلاً من الاتجاهين قد اختاره عدد من المفسرين . كما إنهما مؤيدان بشواهد من المصادر الحديثة . ثم يستعرض اتجاه ( النظر ) ولا يرى مانعاً منه . بل يؤيده بشاهد قرآني وآخر روائي( [9] ) .
÷ ومن الروايات التي أسندوا بها هذا الاتجاه ما رواه العياشي في تفسيره( [10] ) عن محمد بن مسلم عن أحدهما ( ع ) قال : في إبراهيم إذ رأى كوكباً قال : إنما كان طالباً لربه ولم يبلغ كفراً.
وما رواه القمي في تفسيره( [11] ) قال : وسئل أبو عبد الله ( ع ) عن قول إبراهيم ( ع ) :" هذا ربي" ، هل أشرك في قوله : هذا ربي؟ فقال : من قال هذا اليوم فهو مشرك . ولم يكن من إبراهيم شرك ، وإنما كان في طلب ربه وهو من غيره شرك .
÷ وإذن اشتراط ( العصمة ) التكوينية المطلقة ، والقول بأنها ذكرت في الآية لا مستند له سوى الظن : ]وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً[ .
÷ ومن الآيات التي يمكن أن يحتج بها أصحاب هذا الاتجاه قوله تعالى عن نبيه إبراهيم u : ]فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّـي إِنَّـهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ ( العنكبوت/26 ) . وكذلك قوله تعالى : ] قَالَ الْملأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ~ قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَـى اللَّهِ كَذِبـا إِنْ عُدْنَا فِـي مِلَّتِكُمْ بَعْـدَ إِذْ نَجَّانَـا اللَّهُ مِنْهَا [ ( الأعراف/88 ، 89 ) على اعتبار أن ظاهر النص يمكن أن يفهم منه أن شعيباً u كان متبعاً لملة قومه ثم نجاه الله منها .
÷ وعلى كل حال فإن القطع باتصاف الأنبياء u بالعصمة المطلقة غير ممكن .
أما استنتاج هذه العصمة من الآية فتكلف سمج . وأسمج منه إطلاق صفة ( الظالمين ) على من صدر منه الظلم ولو برهة من الزمن وإن تاب وصلح . بل هو لغو ينبغي أن ينزه عنه العقلاء . بل سوءة يجب أن تطوى ولا تحكى .
r
÷ وبانهيار المقدمات الثلاث تنهار النتيجة المبنية عليها ، كما ينهار البناء إذا انهار أساسه . إن الاحتجاج بالآية على ( الإمامة ) عموماً يحتاج إلى الإثبات القطعي لهذه المقدمات . وذلك مستحيل لأن الأمر في أحسن أحواله راجع إلى الظن والاحتمال . وأصول الاعتقاد مبناها على أساس القطع واليقين . وحيث لم يثبت الأساس فلا بناء . فبطل الاحتجاج بالآية على ( الإمامة ) .
لا ذكر لعلي ولا أحد من ( الأئمة ) الاثني عشر في الآية
÷ وعلى افتراض صحة هذه المقدمات جدلاً ، فالاحتجاج بها على إمامة علي أو غيره ممن ادعيت لهم ( الإمامة ) لا يستقيم للأسباب الآتية :
1- إن هؤلاء غير مذكورين صراحة في نص الآية ، بل ولا إشارة! فالآية تتكلم عن إمامة إبراهيم وليس عن إمامة علي أو أحد غيره فإقحامهم فيها محض تخرص وافتراض لا سند له إلا شبهات ، لا يمكن بحال أن ترقى إلى اليقين الذي هو أساس ابتناء الأصول .
÷ ولقد نص الله تعالى في كتابه على خلافة داود u . بينما الأمة بحاجة إلى النص على إمامة علي وخلافته أكثر من النص على إمامة إبراهيم وخلافة آدم وداود . فلا يعقل أن ينص الله على أمر كمالي . ويترك النص على أمر أساسي أصولي !
÷ ومن الملاحظ أن كل الأمور العظيمة المشتركة بين الشرائع القديمة وشريعة الإسلام - كالتوحيد والنبوة والمعاد والصلاة والزكاة والصيام وحرمة القتل والزنا والسرقة - يصرح الله بذكرها في تلك الشرائع . ثم يعود ليؤكد ذكرها صراحة مرة أخرى في شريعة الإسلام بالنصوص القرآنية الواضحة . فلو افترضنا جدلاً أن ( الإمامة ) موجودة في الشرائع القديمة . فلماذا لم يؤكد الله تعالى ذكرها في شرعنا بالنصوص القرآنية التي تصرح بذكر ( الإمامة ) عموماً ، و( إمامة ) علي و( الأئمة ) من بعده خصوصاً؟ ! فعاد القول ( بإمامة ) علي احتجاجاً بالآية إلى المتشابه لا إلى المحكم ، وذلك دليل بطلانه .
2- إن استنباط ( إمامة ) علي من الآية - بناءاً على أن علياً لم يقع منه شرك أو ذنب - لا يمكن القطع به وإنما هو دعوى - ودعوى عظيمة - تحتاج إلى دليل قطعي من خارج الآية ، وإلا فإن الآية لا تنص على علي ولا على عصمته ، فضلاً عن غيره ، فاحتاجت الآية إلى حجة من خارجها فبطل الاستدلال بها .
3- إن القول ( بعصمة علي ) دعوى تحتاج - كما قلت - إلى نص قرآني صريح . وذلك مفقود . والأمر مبناه على الافتراض الظني وذلك لا ينفع في الأصول .
بل يمكن الطعن حتى في دعوى أن علياً لم يقع منه شرك في بداية حياته . وذلك بأن نقول : ما الدليل القطعي على هذه الدعوى ؟ قد يقال : إنه أسلم وهو صبي صغير ولكن هذا القول لا يكفي فقد يكون وقع منه الشرك قبل أن يسلم ، ولا يبعد أن أباه - وهو مشرك - كان يأخذه إلى الكعبة ويلقنه عبادة الأصنام ، بل يقال : إنه ولد في الكعبة ، والكعبة حين ولادته كانت مليئة بالأصنام . فهو قد ولد بين الأصنام! ولقد ولد غير واحد من قريش في الكعبة كحكيم بن حزام .
÷ ويظهر أن المرأة إذا أعسرت أدخلوها الكعبة مستغيثين بالآلهة لكي ييسروا أمر ولادتها . وليس في هذا ذم ولا مدح ؛ لأن الذم والمدح يبنى على الفعل الاختياري ، والطفل لا اختيار ولا قصد له في الخير والشر .
÷ وقولهم : ( أسلم علي وعمره كذا ) يستلزم أنه لم يكن قبل ذلك مسلماً . فإن المسلم من الأصل لا يحدد لإسلامه زمن معين . فلا يقال : أسلم عبد الله بن الزبير ، أو الحسين بن علي سنة كذا ، لأن كلاً منهما مسلم من الأصل .
÷ ودعوى انفراد علي بأنه لم يسجد لصنم غير مسلَّم بها . فإن أبا بكر لم يسجد كذلك لصنم وهذا أدعى للفضل لأنه ترك اختياري عن تفكر وتدبر . فليس هو كترك طفل لم يوضع بعد على المحك . فلا ندري لو عاش حتى بلغ مبلغ الرجال ما ستؤول إليه حاله ؟
وقد حكى لنا التاريخ عن مجموعة ممن كانوا يسمون بالأحناف . لم يشركوا بصنم : كأبي بكر الصديق ، وأبي ذر الغفاري ، وزيد بن نفيل ، وورقة بن نوفل . ولا شك أن الفضل لهؤلاء أولى وأكمل .
÷ والنتيجة أن إثبات أن علياً لم يسبق منه شرك أمر ظني . وثبوت هذا لمن ولد في الإسلام ، ونال الخلافة كعبد الله بن الزبير مقطوع به .
÷ وأخيراً نقول : هل يعقل أن تكون هذه الآية المحتملة لهذه الوجوه التي لا تحصى من الاختلافات حجة على العباد في أصل من أصول الدين . يتوقف على ثبوته الإيمان . ويلزم من إنكاره الكفر ؟!
أعط الآية لرجل دخل فـي الإسلام لأول وهلة لم يسمع بموضوع ( الإمامة ) و( العصمة ) وعلي والحسن والحسين………الخ . غير أنه يحسن العربية . ثم انظر هل يمكن أن يفهم منها ( إمامة ) شخص هو علي؟ أو ( إمامة ) اثني عشر معصوماً أوجب الله الإيمان بإمامتهم؟ ! يستحيل ذلك ولو قرأ الآية ألف مرة !
÷ لكن أعطه هذه الآية مثلاً : ] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [ ( الأنفال/74 ) سيقول لك بداهة : إن الآية تتحدث عن إيمان حقيقي يثبته الله لصنفين من الناس : صنف آمن وهاجر وجاهد . وصنف آوى ونصر - أي المهاجرين والأنصار- وستكون النهاية المغفرة لهم ، والجزاء بالرزق الكريم .
÷ بل أعطه هذه الآية : ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ[ ( المجادلة/11 ) هل يمكن أن لا يفهم منها الإرشاد إلى التفسح في المجالس ؟ ! أو هذه الآية : ]وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا[ ( النساء/86 ) ألا يفهم منها بوضوح الأمر برد التحية وآدابها؟!
÷ أفيأتي التفسح في المجالس والتحية بالنصوص الواضحة الجلية . وهمـا أمـران فرعيان – بـل مـن فـروع الفـروع - ولا تأتـي كذلـك ( إمامة ) علي . وهي أعلى شأناً من النبوة ؟ ! ]ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُـونَ أَمْ لَكُمْ كِتَـابٌ فِيـهِ تَدْرُسُـونَ إن لكم فيـه لمـا تـخيـرون[ ( القلم/36-38 ) .
÷ ولو كانت هذه الآية - وغيرها من الآيات التي يحتج بها الإمامية - دالة على ( إمامة ) علي لكان هو أول المحتجين بها ، وتلك الآثار الواردة عنه في جميع الكتب تصمت صمتاً كاملاً عن ذلك مما يوضح بجلاء أن هذه العقيدة استنبطوها بعيداً عن نصوص القرآن ، ثم جاءوا إلى القرآن ليجعلوا منه تابعاً ومحكوماً يوقّع على ما يقولون ويحكمون
الموضوع |
رقم الصفحة |
المقدمة |
5 |
المنهج الرباني في الاهتداء بالقرآن الكريم |
7 |
منهج الراسخين ومنهج الزائغين |
7 |
نقض الاستدلال بالآية الكريمة على (الإمامة) |
9 |
الآية الكريمة |
9 |
ملخص الاحتجاج بالآية |
9 |
الآية متشابهة وليست محكمة |
11 |
استطراد لزيادة الفائدة |
13 |
المقدمة الأولى إمامة إبراهيم u هل هي اصطلاحية أم لغوية |
14 |
لفظ الإمام مشترك |
14 |
ترجيح كون الإمامة لغوية لا اصطلاحية |
14 |
الإمامة تتجزأ |
19 |
الإمامة قد تكون هي النبوة |
21 |
الإمامة والابتلاء |
22 |
نتائج بناء (الإمامة) على الابتلاء |
24 |
لا علاقة للعصمة من الظلم بـ(الإمامة) |
26 |
إمامة الأشرار |
27 |
المقدمة الثانية هل (الجعل) في الآية قدري أم سببي؟ |
29 |
فما علاقة ذلك بالتعيين الإلهي ؟! |
33 |
المقدمة الثالثة هل في الآية ما يستلزم (العصمة) من الذنب؟ |
33 |
الخطيئة السابقة لا تناقض الإمامة |
37 |
مخالفة (العصمة) لظاهر القرآن |
39 |
انهيار الحجة |
45 |
لا ذكر لعلي ولا أحد من (الأئمة) الاثني عشر في الآية |
45 |
وأخيرا |
49 |
المحتويات |
51 |
- ( [1] ) أصول الكافي/ 1/175 . ويقول محمد حسين الطباطبائي في ( الميزان ) : وروي هذا المعنى أيضاً عنه بطريق آخر . وعن الباقر (ع) بطريق آخر . ورواه المفيد عن الصادق (ع).
- ( [2] ) الإمامة وقيادة المجتمع /ص 26 ،29 .
- ( [3] ) مفاهيم القرآن 5/210 .
- ( [4] ) مفاهيم القرآن 5/239 .
- ( [5] ) فقيه من لا يحضره الفقيه 1/129 .
- ( [6] ) منهاج السنة النبوية – شيخ الإسلام ابن تيمية 1/302- 303 – انظر : أصول مذهب الشيعة 2/786 – د . ناصر عبد الله علي القفاري .
- ( [7] ) تنزيه الأنبياء/47 – مراجعات في عصمة الأنبياء من منظور قرآني – عبد السلام زين العابدين ص118 .
- ( [8] ) أيضا ص 121 .
- ( [9] ) أيضا ص 121 ، 122 .
- ( [10] ) 1/364.
- ( [11] ) 1/207.
=======